يزخر عمل رجال الشرطة بالعديد من الإجراءات، يمكن حصر مجملها باتجاهين أحدهما أمني، وهو الذي يتأتى تنفيذا لما يأمر به القانون، ويتمثل بالحد من وقوع الجرائم، وكشف مرتكبيها بعد ارتكابها، وإحالتهم إلى الادعاء العام، مع المحاضر التي ينظمونها عما قاموا به من إجراءات. وهذا الدور شديد الصلة بالعمل القضائي. والثاني اجتماعي يتجسد في تقديم المساعدة، سواء للضحايا في مسارح الجرائم، أو عند الكوارث الطبيعية، أو في الظروف غير الاعتيادية، وفي كل تلك الإجراءات يفترض أن لا يحيد رجل الشرطة عن الضوابط الأخلاقية التي منها ما هو أثر للواجبات القانونية كعدم اساءة استعمال السلطة أو استغلالها، وحجز حرية الافراد تعسفا أو في غير الحالات التي ينص عليها القانون([1])، ومنها ما هو أثر للأعراف والتقاليد والقيم الاجتماعية، كاحترام الغير والعفة والأمانة والنزاهة والاخلاص في أداء العمل.
وعلى الرغم من أن تلك الضوابط واحدة في إطارها العام، إلا أن تفاصيلها تختلف من إجراء إلى أخر. وبعبارة أخرى أنه علاوة على الضوابط الأخلاقية العامة، هناك ضوابط أخلاقية فرعية إضافية تتلاءم مع طبيعة الإجراء نفسه.
ومن بين تلك الضوابط الأخلاقية الفرعية التي على رجال الشرطة التقيد بها، والتي ستكون محل حديثنا هنا، هي ما يتعلق منها عند قبول البلاغات التي ترد إليهم عن الجرائم ([2]). ومن أجل الإحاطة بالموضوع سنعرف البلاغ ابتداء كمدخل للكلام عن الضوابط الاخلاقية الفرعية ، ومن ثم نتناول انواع تلك الضوابط.
أولاً: ما هو البلاغ
يقصد بالبلاغ عن الجريمة الإخبار عنها، وذلك بإحاطة السلطات المختصة علما بها، سواء كانت الجريمة واقعة على المبلغ نفسه، أو غيره من الأفراد أو الأشخاص المعنوية، أو على أمن الدولة الداخلي أو الخارجي([3]).
ثانيا: الضوابط الأخلاقية الفرعية:
يرتسم في ذهن من يتقدم للبلاغ عن جريمة ما، سواء كان مجنى عليه، أو شاهدا([4])، أنه سيلقى الاهتمام والعناية والرعاية، فبالنسبة للأول، يرى في نفسه أنه صاحب حق، وأنه مظلوم، نتيجة للاعتداء علية، أياً كان هذا الاعتداء، والثاني يرى في نفسه أنه إنسان مخلص ونبيل، سواء كان مواطناً أو وافداً، يقدم خدمة اجتماعية كبيرة.
وهذا الوضع النفسي للمبلغ عن الجريمة يوجب أن يكون هناك سلوك يرتقي في مستواه، إلى درجة التفاعل مع ذلك الوضع. وأهم ما يجب على رجل الشرطة فعله هو التالي:
- قبول البلاغ عن الجريمة برحابة صدر.
بدءا أن البلاغ هو واجب قانوني على رجل الشرطة، نصت عليه المادة 33 من قانون الإجراءات الجزائية، حيث جاء فيها ( على مأموري الضبط القضائي قبول البلاغات والشكاوى التي ترد إليهم عن جميع الجرائم……)([5]). فإذا كان هذا القبول مفروضاً على رجل الشرطة قانوناً، فإن هناك سلوكاً عليه أن يتخذه في ذلك وهو أن يكون قبوله بكلمات تتسم باللين، والود، وعدم الضجر، بحيث لا يبدو من حديث رجل الشرطة وكأنه لا وقت لديه في سماع البلاغ.
- تقبل البلاغ بأي صيغة
عند ورد البلاغ إلى رجل الشرطة، يجب قبوله بأي صيغة تحدث، وبأي وسيلة. فلا يجوز أن يطلب رجل الشرطة من المبلغ أن يتحدث باللغة الفصحى، وإلا سوف لا يقبل بلاغه، أو أن يطلب منه التحدث بلهجة معينة دون اللهجة التي يتكلم فيها، إلا أن لرجل الشرطة أن يستفسر عن معان معينة، إن كانت خافية عليه، وبطريقة طلب الاستيضاح لا بطريقة الاستهزاء أو السخرية، أو النقد أو التجريح. لأن مثل تلك الأساليب قد تؤدي إلى عدم استمرار المبلغ ببلاغه، بل وإلى عدم قول الحقيقة كاملة نتيجة لامتعاضه.
- الاهتمام بالبلاغ
ومما يرتبط بالفقرة أعلاه هو أنه على رجل الشرطة، وهو يتلقى البلاغ، أن يتصرف بما يشعر المبلغ أن بلاغه محل اهتمام، وستتخذ الإجراءات بشأنه، ويحبذ أن يكون التصرف مباشرا، ولو كان ذلك عن طريق التأكد من صحة البلاغ. هذا بعد أن يستفسر من المبلغ عن الجريمة ومكانها وزمان حدوثها وأشخاص مرتكبيها، وأي معلومة أخرى يرى رجل الشرطة أنها مفيدة. وهذا يعني الابتعاد عن أي تصرف يوحي بالإهمال والتهاون والتقصير أو التكاسل. ومما يذكر في المجال، عدم الطلب من المبلغ الاتصال في وقت آخر، أو بعد قليل، او مقاطعته أثناء سرد البلاغ للتحدث مع آخر، خاصة ن كان الحديث بأمور شخصية أو عابرة.
- احترام المبلغ
لما كان المبلغ يريد إيصال خبر الجريمة، يكون لزاما على رجل الشرطة أن يعامله، بكل توقير واحترام، وأن يتضمن حديثه معه معنى الشكر والتقدير، بحيث يشعر المبلغ أن فعله مثمن وأنه محل ترحيب، لا سيما إذا كان المبلغ شاهدا.
- الامتثال لرغبات المبلغ
مما يؤدي إلى امتناع الكثير عن الابلاغ عن الجرائم، خاصة غير المجنى عليهم، عدم الافصاح عن بعض المعلومات التي تتعلق بأشخاصهم، كالاسم والعنوان والوظيفة، لذلك يفضل، على الرغم من أهمية الحصول على المعلومات المتعلقة بالمبلغ، عدم الالحاح بطلب مثل تلك المعلومات، أو أي أمر آخر يرى المبلغ عدم الرغبة في الاعلان عنه. لأن الإصرار على ذلك يؤدي إلى إما عدم تكملة البلاغ، أو الاحجام عنه أصلاً، خاصة إذا كان البلاغ غير مباشر. فعلى رجل الشرطة أن ينحصر همه عند رفض المبلغ إعطاء المعلومات تلك بالجريمة وبظروف ارتكابها.
- طمأنة المجنى عليه
أن تقدم المجنى عليه ببلاغ عن الجريمة التي وقعت عليه إلى رجل الشرطة يحمل في طياته معنى عرض المشكلة التي هو فيها، وتوضيح الألم الذي لحق به من جانب، وطلب النجدة والمعونة من جانب آخر. وذلك لإيمانه أن الشرطة قادرة على إعادة حقه له، وتخفيف الامه. لذلك على رجل الشرطة أن يهدئ من روعه، عن طريق التفاعل مع مشكلته، واخباره بأن الشرطة ستبذل كل الجهود الممكنة التي تحفظ له حقوقه، وأنها ستكون باتصال معه
- عدم تحميل المبلغ أي التزامات
قد تكون وسيلة البلاغ الهاتف أو أي وسيلة أخرى غير مباشرة، فهنا على رجل الشرطة، أن لا يقطع الحديث مع المبلغ، ويطلب منه الحضور شخصيا لسماع ما لديه من معلومات، أو لتدوين بلاغه خطيا ، إن لم يرغب الأخير بذلك([6]).
- حصر سؤال المبلغ بالجريمة
يجب على رجل الشرطة وهو يتلقى البلاغ عن الجريمة أن لا يسأل عن أمور خارج نطاق البلاغ، مثل هل سبق له أن أدلى ببلاغ عن جريمة، وما هي غايته من وراء البلاغ، أو ما هي مصلحته من وراء البلاغ، وأشياء أخرى كالحالة الزوجية والتحصيل الدراسي.
([1] تنظر على سبيل المثال المواد 160 و 161 و165 من قانون الجزاء، والمادة 37 من قانون الإجراءات الجزائية.
([2] ما يفترض التقيد به من أخلاقيات من قبل رجال الشرطة عند قبول البلاغات، هي ذاتها التي يتقيد بها عند قبول الشكاوى.
([3] للزيادة في التفاصيل انظر مؤلفنا الوسيط في شرح قانون الإجراءات الجزائية العماني، الجزء الأول، الطبعة الثانية، دار الثقافة للنشر والتوزيع،2016، ص393.
([4]) من الممكن أن يكون من يتقدم للبلاغ عن الجريمة هو المتهم ذاته،.
([5]) غني عن البيان أن رجل الشرطة من مأموري الضبط القضائي.
([6] من الممكن لرجل الشرطة استدعاء الشاهد لاحقا إن كان يعرف عنوانه، وذلك بالطرق القانونية، سواء بأمر منه أو عن طريق الادعاء العام.